حوار مع عانس في مجتمعنا

حوار مع عانس: قراءة إنسانية في واقع اجتماعي معقد

في المجتمعات العربية، لا تزال بعض المفاهيم الاجتماعية تقف حجر عثرة أمام تطور الفكر والتعامل الإنساني، ومن أبرز هذه المفاهيم ما يُطلق عليه بـ”العنوسة”. هذا المصطلح، المحمّل بأبعاد سلبية وتاريخية، لا يشير فقط إلى حالة اجتماعية بل يحمل في طياته أحكامًا مسبقة، ونظرات دونية، وأعباء نفسية وثقافية تثقل كاهل المرأة. من هنا، تنبع أهمية تسليط الضوء على واقع النساء المصنّفات اجتماعيًا تحت هذا اللقب المجحف، عبر حوار يعكس التجربة الفردية بكل أبعادها، بعيدًا عن القوالب النمطية والأحكام الجاهزة.

هذا المقال ليس نقاشًا في شرعية المصطلح، بل هو قراءة في عمق التجربة من خلال استعراض حوار طويل مع امرأة تُصنّف على أنها “عانس” في مجتمعها، تحمل شهادات علمية، تعمل، تعيش، تحلم، وتواجه المجتمع بنظراته وأحكامه القاسية.

بداية الحوار: بين التعريف الذاتي ونظرة المجتمع

حين طُرِحَ على مريم (اسم مستعار) السؤال الأول عن تعريفها لنفسها، أجابت ببساطة:

“أنا امرأة في الخامسة والأربعين، حاصلة على درجة الماجستير في علوم الحياة، أعمل أستاذة في جامعة محلية، أحب القراءة والسفر، وأهوى التصوير.”

ثم أردفت بابتسامة ساخرة:

“لكن في عرف المجتمع، أنا فقط… عانس.”

تبدأ مريم حديثها من هذه المفارقة الموجعة بين الكينونة الذاتية والتصنيف الاجتماعي. تقول إن المجتمع لا ينظر إلى إنجازاتها، بل يختزلها في وضعها العائلي. لم تتزوج، إذًا فهي “ناقصة” في نظر الآخرين. هذا الحكم يُلقي بظلاله على كل جوانب حياتها، حتى على طريقة تعامل الآخرين معها في أماكن العمل والتجمعات الأسرية.

عبء التوقعات الاجتماعية

تروي مريم أن حياتها منذ العشرينات كانت محكومة بتوقعات الآخرين: “متى ستتزوجين؟”، “هل تقدم لك أحد؟”، “هل ترفضين الخطّاب؟”، “ألا تخافين أن تموتي وحيدة؟”. أسئلة لم تكن بدافع الفضول، بل بمثابة محاكمات اجتماعية، تُشكّك في اختياراتها وكفاءتها وحتى أنوثتها.

في هذا الإطار، توضح مريم كيف أن المجتمع يربط القيمة الذاتية للمرأة بمسألة الزواج فقط، وكأن نجاحها في أي مجال آخر لا يُحتسب إلا إذا تَوَّجَته بارتباط عائلي تقليدي. وتذكر بحسرة أن بعض زميلاتها المتزوجات يقلن لها بتهكم: “ما نفع شهاداتك إن لم يفتخر بكِ زوج وأولاد؟”.

التوتر بين الحرية والضغوط

لا تنكر مريم أنها اختارت في مراحل معينة من حياتها أن ترفض عروض زواج، بعضها جاء في وقت لم تكن فيه مستعدة نفسيًا أو عاطفيًا، وبعضها الآخر لم يكن متكافئًا من حيث الفكر والقيم. تقول:

“الزواج بالنسبة لي مشروع إنساني وليس صفقة اجتماعية لتفادي نظرة المجتمع.”

وتُشير إلى أن هذه القناعة لم تحمِها من الشعور بالحزن أحيانًا، أو الإحساس بالوحدة، لكنها على الأقل لم تجعلها ترضى بالقليل خوفًا من نظرة المجتمع. وتضيف:

“الحرية لا تعني الراحة دائمًا، لكنها تعني أنني أتحمل مسؤوليتي عن خياراتي، وهذا ما لا يفهمه المجتمع الذي يفضل امرأة منكسرة متزوجة على امرأة مستقلة حرة.”

بين التهميش العائلي والتجاهل المؤسسي

تتحدث مريم بحرقة عن التجارب العائلية، وكيف أنها كثيرًا ما تُستثنى من قرارات مهمة داخل الأسرة. تقول إن البعض ينظر إليها كأنها غير مؤهلة لإبداء الرأي في شؤون التربية أو الحياة الأسرية لأنها “لم تخض التجربة”.

هذا التهميش لا يقتصر على العائلة فقط، بل يمتد أحيانًا إلى بيئات العمل. تروي أن بعض الإدارات تُفضّل المتزوجات في الترقيات بدعوى “أن لديهن استقرارًا”، وكأن الاستقرار يُقاس بوجود رجل في حياة المرأة، لا بكفاءتها المهنية واستقلالها النفسي.

قضايا الصحة النفسية: الصمت الممنوع

واحدة من أكثر المحاور المؤلمة في الحوار مع مريم هو الجانب النفسي، والذي يُعدّ من أكثر الجوانب التي يتم تجاهلها عند الحديث عن النساء غير المتزوجات. توضح مريم أن الضغط المستمر من العائلة والمجتمع، والنظرة الدونية، والمقارنات، كلّها عوامل ساهمت في فترات من الاكتئاب والقلق.

“أحيانًا أشعر أنني في معركة دائمة لأثبت أنني مكتملة، وأنني لست بحاجة إلى إثبات شيء لأحد، لكن الاستنزاف النفسي لا يمكن إنكاره.”

وتُشير إلى أن المؤسسات الصحية والاجتماعية قلّما توفر دعمًا نفسيًا متخصّصًا للنساء في وضعها، كما أن النساء أنفسهن يخشين الاعتراف بالمعاناة النفسية كي لا يُتهمن بـ”الحساسية المفرطة” أو “الفشل”.

الإعلام وإعادة إنتاج الوصمة

ترى مريم أن وسائل الإعلام ساهمت في ترسيخ الصورة السلبية للمرأة “العانس”، من خلال تقديمها في الدراما ككارهة للرجال، متسلطة، غير سعيدة، أو متقلبة المزاج. وتوضح أن هذه الصور النمطية تُعيد إنتاج الوصمة وتجعل من الصعب على المجتمع أن يرى النساء غير المتزوجات كأفراد طبيعيين يمتلكون حياة متكاملة.

وتذكر أن نادراً ما تظهر في الإعلام امرأة غير متزوجة وناجحة وسعيدة دون أن يُصوَّر هذا النجاح كتعويض عن “عجز زواجي”. وهذه الازدواجية، حسب تعبيرها، تزيد من الضغط على النساء وتخلق نوعاً من الانفصام بين الواقع والتوقعات المفروضة.

إعادة تعريف الذات: من الوصمة إلى الكينونة

في ختام حديثها، تؤكد مريم أن تجربتها علمتها إعادة تعريف ذاتها بعيدًا عن نظرة المجتمع. اختارت أن ترى في نفسها إنسانة مكتملة، ليست بحاجة إلى لقب “زوجة” لتكتمل، بل إلى تقدير اختياراتها وإنجازاتها.

تقول:

“لم أعد أُعرّف نفسي حسب ما ينقصني في نظر الآخرين، بل حسب ما أمتلكه وأصنعه يوميًا. العنوسة ليست واقعًا قدره المجتمع لي، بل وصفًا أرفض أن أضعه في قاموسي.”

تفكيك المفهوم: نحو وعي اجتماعي جديد

الحوار مع مريم يُضيء على أبعاد متعددة لمفهوم “العنوسة” ويكشف عن كمٍّ كبير من القهر النفسي والاجتماعي الذي يواجه النساء تحت هذا التصنيف. من الضروري أن يُعاد النظر في استخدام هذا المصطلح وفي النظرة الاجتماعية المرافقة له، ليس فقط من منطلق العدالة، بل من منطلق إنساني بحت.

على المؤسسات التربوية، الإعلامية، والدينية أن تعمل بشكل متكامل على تفكيك هذا المفهوم السائد، واستبداله بفهم أكثر واقعية وتعددًا للحياة الإنسانية ومساراتها المختلفة، فالزواج لا يمكن أن يكون المعيار الوحيد لقيمة الإنسان.

دور الأسرة والمدرسة في التربية على التعدد والاختلاف

من بين الحلول الجوهرية لتجاوز عقلية العنوسة تكمن ضرورة مراجعة الأسس التربوية منذ الصغر. ينبغي أن تُربى الفتيات والفتيان على احترام التنوع في اختيارات الحياة، على أن الزواج خيار وليس قدرًا حتميًا، وأن النجاح يُقاس بتوازن الإنسان الداخلي ومساهمته في مجتمعه، لا بوضعه العائلي.

كما ينبغي أن تفتح الأسرة أبواب الحوار حول التوقعات الاجتماعية، وتُعزز من دعم الأبناء والبنات في اختياراتهم، بدلًا من ممارسة الضغط والتقليل من قيمة الفرد إن خالف النمط السائد.

النساء العازبات والتضامن بين الأفراد

يُعدّ التضامن بين النساء العازبات إحدى الآليات القوية لمواجهة الضغط المجتمعي. مجموعات الدعم، المنتديات، والمبادرات الثقافية التي تُسلّط الضوء على قصص نساء اخترن حياة مختلفة، تُساهم في كسر حاجز الصمت والعزلة.

كما أن وجود قدوات ناجحات من النساء غير المتزوجات في مجالات مختلفة يُساعد على إعادة تشكيل الوعي الجمعي، ويمنح الفتيات صورة أكثر شمولية لما يمكن أن تكون عليه حياة المرأة.

جدول: مقارنة بين المفاهيم التقليدية والمفاهيم المعاد تشكيلها للمرأة غير المتزوجة

خاتمة

إن قصة مريم ليست حالة فردية، بل مرآة لملايين النساء اللواتي يعشن تحت ضغط المفاهيم المجتمعية المختزِلة. إعادة النظر في مصطلح “العنوسة” لا يتطلب فقط تغييرًا لغويًا، بل تحوّلًا جذريًا في بنية الوعي الجمعي، يبدأ بالتعليم، ويُدعم بالإعلام، ويترسخ عبر القوانين والمؤسسات التي تحترم خيارات الإنسان، أيًّا كانت.

المراجع:

1. Fatima Mernissi, Beyond the Veil: Male-Female Dynamics in Muslim Society, Saqi Books, 2011.

2. Nawal El Saadawi, The Hidden Face of Eve: Women in the Arab World, Zed Books, 2007.